[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]الحمد لله رب العالمين، لا إله إلا هو رب الأولين والآخرين، وقيوم السموات والأرضين، ومالك يوم الدين، عز كل ذليل، وقوة كل ضعيف، وغوث كل ملهوف، وناصر كل مظلوم.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، بيده ملكوت كل شيء، وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين، واجعلنا من الذين عزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أُنزل معه، أولئك هم المفلحون.
أما بعد..
فإن نبينا صلى الله عليه وسلم كان بشرًا صاغته يد العناية الإلهية صياغة خاصة، لم يكن بشرًا عاديًا، لكنه بشر اصطنعه الله لنفسه، وصنعه على عينه، رباه فأكمل تربيته، وأدبه فأحسن تأديبه، وأودع فيه من حميد الخصال والخلال، ما يجعله مميزًا عن سائر الخلق، وامتن عليه بحبه حتى جعله الشافع المشفع، الذي ينصرف الناس من الحشر على قدميه، لا ينصرف الناس من أرض المحشر إلا بشفاعته العظمى صلى الله عليه وسلم، فهو أول شافع وأول مشفع، وهو سيد ولد آدم ولا فخر..
أرسل الله هذا النبي الكريم رحمة للعالمين، ليس رحمة لجنس دون جنس، ولا لخلق دون خلق، ولكن جعله رحمة عامة لسائر الخلق أجمعين، ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ (31) قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنْ السَّمَاءِ أَوْ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)﴾ (الأنفال)، وإن من عقوق البشرية لهذه النعمة أن يُساء إلى هذا النبي الكريم، أن يعاب!! هذه الرحمة المهداة؟!، وسنحيا مع جانب من جوانب عظمته لنرى أيستحق مثل هذا النبي صلى الله عليه وسلم أن يعاب ويسب؟!!.
الجانب الذي سنعيش معه هو تعامله صلى الله عليه وسلم مع أعدائه الذين آذوه، فربما إذا تكلمنا عن سماحته مع المؤمنين أو مع المسلمين قيل: هذا أمر طبيعي، أن يتسامح مع المؤمنين به، لكننا نتناول جانبًا يعز أن تجد بشرًا تمتع فيه بمثل ما تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع أنه ولد يتيمًا، إلا أن الله سلَّمه من عُقد اليتم، فلم يخرج حاقدًا ولا حاسدًا، ولم ينظر إلى المجتمع نظرة سوداوية كما يقولون، إنما بدأت حياته الكريمة- صلى الله عليه وسلم- بشق الصدر واستخراج حظ الشيطان منه؛ فبقي القلب لا حظ فيه إلا للرحمن جل وعلا، لا يعرف الأذى، ولا يسعى فيه، ولا يعرف الحقد، ولا يأكل قلبه الغيظ.
في سيرته الشريفة صلى الله عليه وسلم، يؤذى ويُخرج من مكة، ويذهب إلى الطائف، ويؤذيه أهل الطائف، ويسلطوا عليه السفهاء والغلمان، يرمونه بالحجارة حتى يسيل الدم من أقدامه- صلى الله عليه وسلم-، ثم يجلس في ظل حائط (بستان)، ويرفع يديه إلى الله رب العالمين، لا يرفعها طلبًا لإهلاك القوم، ولا انتقامًا من الظالمين، إنما يرفع يديه بالشكوى وطلب المغفرة، يقول: "اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، أنت أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني، أم إلى قريب ملكته أمري؟ إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالي"، وفي هذه اللحظة، وهو مطَارَد، لم يدخل مكة، وقد طُرد من الطائف، ينزل ملك الجبال مع جبريل عليه السلام، ويقول ملك الجبال: يا محمد، إن الله قد أرسلني إليك، فمرني بما شئت، إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين (أي أَحمل الجبلين فأطبق على البلدة الجبلين فيموت الجميع انتقامًا لك)، هنا نرى أن مصير أعدائه يتحدد في كلمة تخرج من بين شفتيه، وفي وقت كان قلبُه صلى الله عليه وسلم يشكو من الضعف والهوان، ولكنه قال: "كلا، بل أدعو الله أن يُخرج من أصلابهم من يعبد الله ولا يُشرك به شيئا"، (1) أي قلب هذا؟!! أمثل هذا القلب الكبير، يستحق من البشرية أن تُسيء إليه؟!!.
ثم يمضي صلى الله عليه وسلم ويذهب إلى المدينة، ويتعرض لألوان من الأذى لا حصرَ لها، يحاول اليهود اغتياله، ولكنه مع ذلك لا يتغير قلبه.
في غزوة أحد، ضربه أحد المشركين واسمه عبد الله بن قمئة- أقمأه الله- وأصابه المشركون حتى شجُّوا وجهه، وكسروا أسنانه، وسال الدم الشريف على الوجه الشريف، وحفروا له حفرة وقع فيها، فقام يمسح الدم عن وجهه ويقول: اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون (2) صلى الله عليك يا رسول الله.
في المعركة، وساعة الأذى، والدم لا يزال يسيل، ولكن لسانه لا ينطق إلا بالدعاء بالهداية!!، أيحل لصاحب هذا القلب الكبير أن يُسيء إليه الناس؟!!
وفي المدينة، يتآمر عليه رأس النفاق، عبد الله بن أبيّ بن سلول، يدخل النبي صلى الله عليه وسلم يومًا إلى مجلس من الأنصار وفيهم عبد الله بن أبي بن سلول قبل أن يعلن إسلامه، وقد ركب النبي صلى الله عليه وسلم دابة، فإذا بعبد الله بن أُبي يضع يده على أنفه، ويقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم، يا محمد اخرج عنّا فقد آذانا نتن حمارك!! فيرد أحد المسلمين الحاضرين من قومه- من الأنصار- وهو أسيد بن الحضير رضي الله عنه ويقول: والله يا عدو الله لريح حمار رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيب من ريحك، بل اغشنا يا رسول الله في مجالسنا (أي ادخل علينا واجلس معنا)، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ ويدعوهم إلى الله، فقام عبد الله بن أبيّ، وقال: يا هذا، أنا لا أُحسن مما تقول شيئًا، لكن اجلس في بيتك، فمن أراد أن يُؤمن بك فاتلُ عليه، ولا تغشنا في مجالسنا، وقام المسلمون الصادقون ليردوا على هذا المنافق الأثيم، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم يرفض ويقول: بل أُحسن إليه ما دام فينا (3).
ثم يتآمر هذا المنافق- وقد أسلم- ويرمي السيدة عائشة بالإفك، يرميها بالزنا، ويظل الوحي شهرًا، ولا يعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم ماذا يقول؟! رسول الله صلى الله عليه وسلم في ألم، وعبد الله بن أبيّ يدور بين الناس بهذه الشائعة الأثيمة، ثم ينزل الوحي مبينًا أنه كذّاب أثيم، ويقول ﴿إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنْ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11)﴾ (النور)، ومع ذلك يصفح عنه النبي صلى الله عليه وسلم!!(4).
ومرة ثالثة يقول هذا المنافق لأصحابه: لئن رجعنا إلى المدينة ليُخرجن الأعز منها الأذل، ويدّعي أنه سيُخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة، ويعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويأتي ابنه عبد الله، وكان مسلمًا صادق الإسلام، ويقول: يا رسول الله! إن كنت آمرًا أحدًا أن يقتل أبي فمرني بقتله، قال: لا يا عبد الله، بل نحسن صحبته ما دام فينا، ويرجع ابنه عبد الله فيقول له: والله لا تدخل المدينة حتى تقول: أنا الأذل ورسول الله الأعز!!(5).
ويظل عبد الله بن سلول طوال حياته يتآمر على رسول الله، إلى أن جاءه الموت، وانظر هنا كيف يتعامل القلب الكبير لرسول الله صلى الله عليه وسلم مع أعدائه؟!.
جاء الموت إلى عبد الله بن أبي بن سلول، فقال لابنه عبد الله: يا بنيّ! إذا مِتّ، فاطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكفّنني في ثيابه، واطلب منه أن يصلّي عليّ، وجاء عبد الله بن عبد الله، يقول: يا رسول الله! إن أبي أوصاني أن يُكفن في ثيابك وأن تُصلي عليه، هذا الذي قاد حملة الإفك والشائعات على رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا الذي نزل القرآن يُعلن أن له عذابًا عظيمًا، يطلب أن يُكفّن في ثياب رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فيخلع النبي صلى الله عليه وسلم ثيابه، ويقول: "كفنه فيها إن كانت تنفعه"، ثم يخرج للصلاة عليه، فيُمسك سيدنا عمر بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: يا رسول الله، أتصلّي على هذا المنافق؟!! لقد فعل وفعل وفعل، قال: دعني يا عمر لقد خيرني الله عز وجل فقال: ﴿اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80)﴾ (التوبة)، والله لو علمت أني لو زدت على السبعين غُفر لهم؛ لاستغفرت لهم!!!.
هذا القلب، أيستحق أن يُسبّ؟، هذا القلب، أيستحق أن يُعاب؟!!
ويصلي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على عبد الله بن أبي بن سلول، حتى ينزل القرآن الكريم موافقًا لرأي عمر، ويقول الحق جل وعلا: ﴿وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ﴾ (التوبة: من الآية 84) (6).
هذا الحبيب صلى الله عليه وسلم، وهو في عز سلطانه، يأتيه أعرابي جافٍ ويقول: يا محمد أدّ إليّ ديني فإنكم يا بني عبد المطلب قوم مطل (أي مماطلون تأكلون الحقوق)،- يقول هذا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بين أصحابه الأقربين المحبين!! فيهُمُّ الناس به، ويهم به عمر، فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يا عمر، كنت أنا وهو أولى بغير ذلك منك، أن تأمرني بحسن الأداء، وأن تأمره بحسن التقاضي، ثم قال: "أدّ إليه بعيره وزدْه بعيرًا آخر لقاء ما روّعتَه"- أي أِعطِ له حقه، وزد عليه مثله؛ لأنك خوفته-!!