حق علي كل مسلم ان يقبل راس هذا الرجل
حق علينا ان نقبل راس هذا الرجل.
في السنة التاسعة عشرة للهجرة بعث سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه جيشا لحرب الروم فيه عبد الله بن حذافة وكان قيصر الروم قد وصلت إليه أخبار المسلمين وما يتحلون به من صدق الإيمان وبذل النفس في سبيل الله ورسوله ، فأمر رجاله إذا ظفروا بأسير من أسرى المسلمين أن يبقوا عليه وأن يأتو به حيا .. وكان عبد الله بن حذافة ممن وقع في الأسر.
نظر ملك الروم إلى عبد الله بن حذافة طويلا ثم بادره قائلا : إني أعرض عليك أمراً !!
قال : وما هو ؟
فقال : أعرض عليك أن تتنصر ... فإن فعلت خليت سبيلك ، وأكرمت مثواك ، فقال الأسير في أنفة وحزم : هيهات .. إن الموت لأحب إلي ألف مرة مما تدعوني إليه.
فقال قيصر : إني لأراك رجلا شهما ... فإن أجبتني إلى ما أعرضه عليك أشركتك في أمري وقاسمتك سلطاني . فتبسم الأسير المكبل بقيوده وقال : والله لو أعطيتني جميع ما تملك ، وجميع ما ملكته العرب على أن أرجع عن دين محمد طرفة عين ما فعلت.
قال : إذن أقتلك.
قال : أنت وما تريد ، ثم أمر به فصلب ، وقال لقناصته - بالرومية - ارموه قريبا من رجليه ، وهو يعرض عليه مفارقة دينه فأبى.
عند ذلك أمرهم أن يكفوا عنه ، وطلب إليهم أن ينزلوه عن خشبة الصلب ، ثم دعا بقدر عظيمة فصب فيها الزيت ورفعت على النار حتى غلت ثم دعا بأسيرين من أسارى المسلمين ، فأمر بأحدهما أن يلقى فيها فألقي ، فإذا لحمه يتفتت ، وإذا عظامه تبدو عارية...
ثم التفت إلى عبد الله بن حذافة ودعاه إلى النصرانية ، فكان أشد إباء لها من قبل.
فلما يأس منه ، أمر به أن يلقى في القدر التي ألقي فيها صاحباه فلما ذهب به دمعت عيناه ، فقال رجال قيصر لملكهم : إنه قد بكى ... فظن أنه قد جزع وقال : ردوه إلي ، فلما مثل بين يديه عرض عليه النصرانية فأبى ، فقال : ويحك ، فما الذي أبكاك إذا؟!
فقال : أبكاني أني قلت في نفسي : تلقى الآن في هذه القدر ، فتذهب بنفسك ، وقد كنت أشتهي أن يكون لي بعدد ما في جسدي من شعر أنفس فتلقى كلها في هذا القدر في سبيل الله .
فقال الطاغية : هل لك أن تقبل رأسي وأخلي عنك؟
فقال له عبد الله : وعن جميع أسارى المسلمين أيضا ؟
قال : وعن جميع أسارى المسلمين أيضا.
قال عبد الله : فقلت في نفسي : عدو من اعداء الله ، أقبل رأسه فيخلي عني وعن أسارى المسلمين جميعا ، لا ضير في ذلك علي. ثم دنا منه وقبل رأسه ، فأمر ملك الروم أن يجمعوا له أسارى المسلمين ، وأن يدفعوهم إليه فدفعوا له.
قدم عبد الله بن حذافة على عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وأخبره خبره ، فسر به الفاروق أعظم السرور ، ولما نظر إلى الأسرى قال : حق على كل مسلم أن يقبل رأس عبد الله بن حذافة .. وأنا أبدأ بذلك...
ثم قام وقبل رأسه ...
رحمك الله يا ابن حذافه ووالله لو كنت حيا الان لتمنيت ان اقبل راسك
من هو عبد الله بن حذافة؟
هو عبد الله بن حذافة القرشي السهمي ، ولد في مكة من أبوين كريمين ... فأبوه حذافة بن قيس بن سعد بن سهم القرشي السهمي ، وأمه تميمة بنت حرثان من بني الحارث بن عبد مناة بن كنانة .
كان عبد الله من السابقين الذين أنعم الله عليهم بنعمة الإيمان حين أضاء الله بنوره سماء مكة ، وأرسل رسوله الكريم - صلى الله عليه وسلم - ليهدى الناس إلى الإسلام وحين أذن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه بالهجرة إلى الحبشة فراراً بدينهم وأنفسهم ، هاجر عبد الله بن حذافة مع المجموعة الثانية ، وظل في هجرته إلى يوم فتح خيبر .
اتصف عبد الله بن حذافة بقوة الإيمان والشجاعة ، ورباطة الجأش ، وسداد الرأي والحنكة في قتال أعداء الله مما جعله موضع ثقة النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه من بعده ، فقد ولاه الرسول صلى الله عليه وسلم القيادة على سرايا المجاهدين ، واختاره رسولاً إلى ملك الفرس .
وفى خلافة أبي بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم - أبلى بلاءً حسناً في معارك الجهاد في سبيل الله ، وقد أسر في خلافة الفاروق عمر - رضي الله عنه - وعانى معاناة شديدة ، بسبب محاولات الروم لتنصيره ، غير أن عبد الله صمد أمام خبثهم وإصرارهم ، وكان سبباً في نجاة ثمانين من الأسرى المسلمين حين رضي أن يقبل رأس قائد الروم شريطة أن يطلق سراح الأسرى ، وقد عاد شامخ الرأس إلى الخليفة عمر - رضي الله عنه - فما كان من عمر إلا أن قبل رأسه تقديراً ومكافأة على ما قام به في سبيل الله .
ظل الصحابي الجليل عبد الله بن حذافة يجاهد الكفار والمنافقين ، وينتقل من معركة إلى أخرى ، لا يقر ولا يهدأ ، حتى خرج مع جيش عمرو بن العاص إلى مصر ، وخاض معه معارك كثيرة ، أبدى في كل منها ضروباً من الشجاعة والإقدام والجرأة والثبات ، مما جعل عمرو بن العاص يستخلفه على الإسكندرية في حامية قليلة العدد ، مما جعل الروم يطمعون في الإسكندرية ويغيرون عليها ، وقد كان من حكمة القائد المحنك أن أخلى الإسكندرية قبل أن يلحق أذى الروم بإخوانه . ولم يلبث المسلمون أن استعادوا الإسكندرية بعد ذلك ، وطردوا منها الروم ورفرفت فوق ربوعها راية الإسلام عالية خفاقة .
وفى نهاية الرحلة لقي عبد الله بن حذافة ربه راضياً مرضياً في خلافة عثمان بن عفان - رضي الله عنه - ودفن في مصر .
رحم الله البطل المجاهد، والجندي المكافح، والأسير الصابر، والقائد الفاتح صاحب رسول الله...